في الوقت الضائع
بقلم عبيدة محمود ياسين
بقلم عبيدة محمود ياسين
بينما أنا سائرٌ أبحثُ عن زقاق لمجموعة يائسة من
المثقفين، وجدتهم، كانوا يحملون عدة أوراق، كل منهم يحمل دفتراً ذا سمك يوحي
باحتوائه على المعلومات. تقدمت نحوهم، وسألت: هل يمكنني الجلوس؟ تلفظ أحدهم وقالي
لي: تفضل أهلا بك.
أخذت أسمع ما
يقولون، في البداية كانوا يتحدثون عن فلسطين، ثم تلقائياً ومن دون دراية وإدراك،
انتقل موضوع النقاش نحو الوضع العربي، وأسباب الربيع العربي، والدمار في الوطن
العربي، وهكذا، ثم ينتقلون لموضوع آخر، مرة دور أوروبا، ومرة دور أمريكيا، ولكل
دور، ولن يهرب أحد من المرور على الصراط.
استمعت
لكامل حديثهم، لأول مرة أشعر أنني مذنب بحق نفسي، لقد كانوا يتكلمون ويتحاورون؛
كأنهم يحبون ذلك، وأنا كنت جالساً لا وجود لي، لقد بدأت أزدري نفسي من يومها،
تاريخنا ينسى، ويهمش، ويضرب، ويخفى، هذا ما استطعت فهمه منهم.
عدت
للمنزل، ودخلت غرفتي، جلست على طاولتي الخشبية الصغيرة في زاوية الغرفة، وشغلت
الموسيقى، كانت الموسيقى تأخذني لعوالم كثيرة، لقد تركت الضوء مطفأً، وأشعلت مصباح
المكتب حتى أقدر على التأمل، فضوء المصباح يزعجني، لكن ذلك المصباح الصغير الخاص
بالمكتب، يشعرني، بالقوة، والرغبة بالحلم، ويعطيني قوة؛ فهو يضيء ويصارع قوة
الظلام، في الغرفة.
استيقظت في
اليوم الثاني، والموسيقى لازالت تعمل، لا أحد في المنزل سوى أنا، لقد اشتقت لأمي،
ولأخوتي، وأبي، فهم يعيشون في مدينة أخرى؛ اضطررت لأسافر منها لهذه المدينة؛ حتى
أكمل دراستي الجامعية، أو بالأحرى أبدأها بعد الثانوية، وقد قطعت في دراستي سنتين،
وهذه الفترة علي أن أتخصص...، لقد غرقت في تيار من الأفكار، ماذا علي أن أتخصص؟
ماذا علي أن أفعل لهذه الأمة؟
الكثير من الأفكار والتساؤلات المتداخلة، والذكريات الجيدة والحزينة؛ كنت أحلم أن أسافر لتركيا للدراسة في جامعة أنقرة، لدراسة علم الأحياء، لكن الحظ لم يحالفني، وجئت هنا إلى هذه المدينة، لم أسافر خارج فلسطين، بقيت هنا ، ودرست الآداب، وأنا الآن علي أن أتخصص إما في اللغة الإنجليزية، أو العربية.
الكثير من الأفكار والتساؤلات المتداخلة، والذكريات الجيدة والحزينة؛ كنت أحلم أن أسافر لتركيا للدراسة في جامعة أنقرة، لدراسة علم الأحياء، لكن الحظ لم يحالفني، وجئت هنا إلى هذه المدينة، لم أسافر خارج فلسطين، بقيت هنا ، ودرست الآداب، وأنا الآن علي أن أتخصص إما في اللغة الإنجليزية، أو العربية.
استطعت أن
أهرب من تيار الأفكار والذكريات، وأخذت أفكر تفكيراً حاسما؛ وقررت أن أدرس
العربية... خرجت من غرفتي ولم أتناول الفطور، وسلكت الطريق من البيت إلى الجامعة
سيراً على قدمي، وتيار الذكريات عاد إلي، وكأنه فيلم على شكل أجزاء صغيرة أراها
أمام عيني، نسيت العالم من حولي، وتذكرت أول كلمة تركية قرأتها وحدي، بعد أن تعلمت
الحروف، هذه الذكرى جعلتني حزيناً، حلمي في السفر لتركيا والذي لم ينفذ يجعلني
حزيناً.
عدت للسكن، لقد تذكرت أن لا محاضرة لي اليوم، في طريقي، رأيت شريطاً في أحد المحالات التجارية، قد كتب عليه: نشيد عثماني، توقفت، وبحثت في جيبي إذا كان معي أي شيء من النقود، ووجدت بعضاً منها يكفي لشرائه، فاشتريته وعدت للمنزل ودخلت الغرفة، أحضرت المسجل، وأدرته بعد أن وضعت الشريط بداخله، وأخذ يغني، كان يقول(fatihin istanbulu) ويغني جملاً أخرى، كل ما فهمته، هو كلمة اسطنبول، لكن شيء ما جعلني أرتاح حين سمعت تلك الأغنية، جعلتني أشعر بحيوية، وبرغبة بالسفر، لتركيا، تركت المسجل مفتوحاً ورفعت صوته، وذهبت للحمام، وأنا لا زلت أسمع الأغنية، نظرت لوجهي في المرآة، وغسلته، عدت وتناولت الفطور، حملت ورقة وقلم، وكتبت سأنهي الأدب العربي في سنتين، ثم أعمل وأقوم بتجميع مالٍ كافي للسفر إلى تركيا، أخذت الورقة وعلقتها على الحائط، ثم أخذت كتابي المقرر وقرأت فيه ، وكل ما نظرت إلى الورقة ازداد تفاؤلي....
وهكذا مضت كل الأيام، أشغل الأغنية إن لم يكن لدي محاضرة، وأبدأ بالقراءة بعد الفطور، وإن كان عندي دوام جامعي، أحمل مسجلي الصغير وأسمعها وأنا ذاهب للجامعة، وقبل الدخول، أضعه في الحقيبة وأطفئه.... مرت سنتان على هذا الحال، وأنهيت دراسة اللغة العربية، بامتياز، وكنت قد أحرزت المرتبة الأولى بين أقراني. عدت لمدينتي الأصلية، وتقدمت لامتحان التوظيف، وقمت بالمقابلة، وبدأت في العمل، حتى تم قبولي كمعلم للغة العربية، وبعدها بسنتين، من التوفير والادخار، كنت قد جمعت مالاً كافياً، للسفر إلى تركيا؛ لذلك طلبت إجازة للدراسة وحزمت أمتعتي، وانطلقت إلى تركيا.... وصلت تركيا بالسلامة، وفي البداية واجهت صعوبة في التأقلم، وأتتني فكرة العودة؛ لصعوبة التأقلم مع الغربة في البداية مرات كثيرة، ولكن والحمد لله استطعت التأقلم، وتعلمت اللغة، ثم تقدمت لامتحان القبول للجامعة، وقد قبلوني، فبدأت ادرس ماجستير الآداب، وأنهيته كما أنهيت الدراسة الأولى بالدرجة العالية، ثم تقدمت لدراسة الدكتوراه في الأدب التركي، وأنهيتها بعد سنوات.
بعد الحصول على شهادة الدكتوراه في الأدب التركي، تقدمت بطلب للعمل بجامعة أنقرة، وتم قبولي لذلك، ولم أكن حينها قد تزوجت بعد، وعمري الآن جيدٌ للزواج،29 سنة، جيدة للزواج. تعرفت على إحدى الزميلات في الجامعة، وتقدمت لطلب يدها، حيث كنت قد أرسلت لأبي وأمي أن يسافرا إلى، وقاما بذلك، وطلبا يد تلك الفتاة من أبيها لي، وتم الأمر وتزوجنا، وأنجبت ثلاثة أولاد. عشت في تركيا، وأخذت أسافر لأهلي كل فترة، مع زوجتي وأولادي. أتممت الخامسة والأربعين من عمري، وتذكرت صديقاً قديما لي، من أيام المراهقة... هذا التذكر اضطرني للعودة للوطن كي أبحث عنه، ذهبت لمنزل والده، فأخبرني أنه صار مهندساً، ويعمل الآن في روسيا، استطعت بطريقة ما أن أتصل به، تفاجأ كثيراً حينما سمع صوتي، واتفقنا على أن نتقابل في فلسطين، بعد عدة أشهر، أنا حزمت أمتعتي وجهزت أبنائي، وعدت للوطن، وكان قد سبقني بذلك....في أول يوم التقينا فيه، ذهبنا نسير نحو المخبأ السري الذي اعتدنا عليه، وجلسنا في منتصف الطريق الترابي، سألته:
-هل لا زلت تؤمن بقيام العرب؟
- نعم لا زلت أؤمن.
- اسمع يا صديقي، ما رأيك أن نؤسس جريدة في تركيا لبدء عملنا؟
- الأفضل أن تكون في فلسطين.
- نعم الرأي رأيك؛ لكن أريد أن يصل الرأي لكل مكان، سنتعاون على تأسيس ثلاث جرائد، فلسطين، وفي روسيا حيث يمكنك أن تديرها وتشرف على مديرها، وأنا سأنشئ واحدة في تركيا.
- أنا موافق، وحين أعود بعد العطلة السنوية، سأبدأ العمل.
- وأنا أيضا.
- لكن ما رأيك أن نقيم واحدة في فلسطين؟
- غدا سنبدأ بالتجهيز إذا.
ثم ضحكنا لسرعة الحوار. هكذا قمنا بإنشاء جريدة الأرض الفلسطينية، وأخذنا نواجه الرأي العالمي بشأن العرب، ونواجه الفكر الإسرائيلي، وكذلك أنشأت جريدة التاريخ في تركيا، وهو أنشا جريدة الوعي في روسيا.... تعرضنا في هذه الرحلة لاعتقالات كثيرة، وكدنا أن ننفى من البلدان، مرات إلى دول أخرى، ومرات إلى الوطن.... لكن أي منفى في الوطن؟ يا لهم من أغبياء. وهكذا رحت أجابه في تحيق هدفي؛ تعلمت التركية، وخدمت الأمة بالرغم من أني لم أتعلم الأحياء، شعرت بشيء يجعلني أموت وأنا مرتاح.
اضغط على السمايل للحصول على الكود: :) =( :s :D :-D ^:D ^o^ 7:( :Q :p T_T @@, :-a :W *fck* x@